تقول معاجم اللُّغة ، نثرت الشئ ، ألقيته مبعثرا مفرقا ، يقول المتنبئ في فعل سيف الدولة بأعدائه في احدى المعارك العسكرية.
نثرتهم فوق الأُحيدب نثرة .. كما نثرث فوق العروس الدراهم
والأُحيدب جبل ، وقريب من هذه المادة ودلالتها اللّغوية قول البنا في وصف البطانة:
تناثرت الظباء على ثراها .. وراتعها مع الأنس السوام
ومن هذه المعاني اللّغوية مجتمعة ، سمى العرب كلامهم غير الموزون وغير المقفى نثراً ، وقسّموه الى نثر عادي يستعملونه في لغة الحياة اليومية ، والقسم الآخر هو النثر الفني ، لغته مختارة ، وفواصله منتظمة وهو صالح لتصوير الفكر وتصوير العاطفة ، ومنه الخطب السياسية والمقالات الأدبية ، ومنه القصة والرواية الى آخر هذه الألوان المعروفة من الكلام ذي الفكرة الرفيعة ، ونعطيك أخي القارئ هذه الجملة من النثر الفني ـ لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في وصف شعر المتنبئ في المعارك الجهادية يقول لك (فإذا قرأت وصف المتنبئ لهذا الجهاد ، وجدت ناراً تضطرم ، ولا تكاد تمس قلبك حتى تشيع فيه ، فإذا قلبك يضطرم أيضا حماسا ونشاطا.
هذا الكلام كلام منظم ومقسم الى فقرات ـ تكاد تكون شعراً ، لكنها مع ذلك تظل نثراً فنيّاً ، وأنت تعلم أنّ العرب في جاهليتهم لما رأوا القرآن الكريم فيه من حسن الايقاع وضبط الفواصل بأواخر الكلم تشبه القافية ، قالوا إنّه شعر ، لكن القرآن الكريم نفى سمة الشاعرية في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ـ الذي نزل عليه بنصه ومعناه ، قال تعالى في سورة يس (وما علّمناه الشعر وما ينبغي له إنْ هو الا ذكر للعالمين) وحدد الله تعالى أهداف رسالته فقال (لينذر من كان حيا ، ويحقّ القول على الكافرين) ، ويريد بقول: حيّا ذا القلب والعقل الذي يعي ويتبع الحق.
هذا أخي القارئ كلام موجز عن النثر بقسميه النثر العادي والنثر الفني ، وهنا حري بنا أن نتساءل ، أين موقع قصيدة النثر من هذا؟ إنّ كلّ خصائصها تدل على أنها لم تبلغ هذا الذي نتحدث عنه من النثر الفني ، وهي بطبيعة الحال ليست شعرا لانها حُرمت كلّ ما في الشعر من سمات الإبداع ، يقول الاستاذ جعفر محمد عثمان إنّ الشعر المنثور قد حُرم الأوزان وهي الإيقاعات الموسيقية المختلفة من بحر الى بحر ، كما حُرم القوافي وهي سرُّ النشوة والطرب, ولابد أن يطرأ على ذهنك أخي القارئ سؤال فحواه إذا كان الأمر كما ذكرنا لك ، فمن أين جاء هذا التعبير الذي يزعم اهله أنّه تعبير أدبي ،إنّ معظم الذين أرّخوا لنشأة هذا الكلام المنثور الذي يطمح أهله لان يكون شعرا ، معظمهم أشاروا الى أنه جنس غربي النشأة والمولد ، وليس فيه من الحس العربي في شعره أو في نثره الفني هذا الذي نحسّه نحن قراء العربية على مرّ القرون.إنّه غربي النشأة أمريكي المولد.
ولن تخفى على فطنة القارئ اتجاهات معظم الذين يكتبون قصيدة النثر تلك الاتجاهات ، التي تسعى لتقويض القصيدة العربية ـ الموزونة المقفاة ، لان أهل هذا النوع من كتابٍ قاصري الموهبة يكمن في نفوسهم عداء لكل ما هو عربيّ اسلاميّ ، ودونك أخي القارئ تلك النصوص وما فيها من مما نقوله لك ، إنهم يقللون من دلالات الكلمة العربية على المضمون الذي تنتظره الأمة الإسلاميّة لنشر القرآن ورسالته السّامية ، ومن مراميهم الغريبة إبعاد الكلمة عن النغم والجرس الجميل ، وهذا واحد من أسرار بلاغة القرآن الكريم فيه هذا التناغم بين الحرف والصوت والجرس والمعنى ـ فتأمل.
بعد كل هذا الذي نقوله لكن حاول ان تسْبر احساس معظم كاتبي هذا اللون من التعبير ستجده إحساس من فتنوا بآداب الغرب وحضارتهم المناوئة بالضرورة لحضارة العرب والمسلمين.
ودعك من كل هذا واقرأ معنا بعض هذه الكلمات من احدى قصائد النثر ، وحاول أن تجد فيها ما يغذي فكرك أو يطرب وجدانك.. يقول صاحبها:
رفعت صوتي
سحابا
وعمّدت جسد امرأة
بيني وبينها مسافة
تركت الحلم يهتز
في ساعة حبلى
عبرت رجع الدمع
شجرة تشتري اساورها
من واهنات الزهر .. الخ
الأمر متروك لكل ذي ذائقة أدبية تفهم وتحكم ، وقديما قالوا (الحكم على الشئ فرع عن تصوره) والأدب فكرة وعبارة ذات جرس وصورة.
أخي القارئ وأنت تتابع مسيرة الشعر العربي تدرك تماما أنّ الواناً من التطور قد صاحبت مسيرة القصيدة العربية عبر القرون منذ أن استدرك الاخفش على الخليل فجاء بوزن (المتدارك) ومنذ أن تجددت الوان الشعر فجاءت منظومات كالمخمسات والمربعات والموشحات الى آخر تلك الضروب من الثورات التجديدية ، ولعل من اهمها تأثر لغة الشعر بان رقت ألفاظه وحلتْ موسيقاه عندما دخل العرب الى بلاد أجمل طبيعة من بلادهم كل هذا وغيره أخي القارئ تجده مسجلاً ومدوناً ، ولم يكن من هذه الألوان لون دعا الى ترك الركنين الاساسيين وهما الوزن والقافية.
ولابد أن تسأل فأين يقع شعر التفعيلة الحرّ ، في هذه المنظومات المتجددة ، لقد كانت الشاعرة العراقية نازك صادق الملائكة أول من كتب شعرا يخالف القصيدة العربية بأبحرها وقوافيها المعروفة!
ففي عام 1947م كتبت قصيدة بعنوان (الكوليرا) تجاوبت فيها مع اشقائها المصريين عندما تفشى فيهم هذا الداء اللعين.
وأول الفوارق بين هذا الشعر وقصيدة النثر هو هذا الاتجاه الانساني ، وقلما وجدناه في قصيدة النثر.
ثم ان دعوتها للتجديد لم تخرج الى ترك الوزن ، ولا القافية ففي الوزن اعتمدت على تفعيلة واحدة من تفعيلات الخليل المعروفة فجعلتها وزناً تدور حوله قصيدتها الجديدة او تأتي بأكثر من تفعيلة وكل ذلك يحفظ لها النغم الذي تفقده قصيدة النثر. ومما نبهت اليه ان منهجها هذا استغله كثيرون مما لا يعرفون الوزن الشعري فيختلط عندهم الشعر بالنثر وهذا ما حصل.
وما قالته إنّ نمطها هذا ليس بديلاً عن القصيدة العربية المعروفة بوزنها وقافيتها ، ولكنه تجديد في بنية القصيدة..
ولنقرأ معاً أخي القارئ بعض مقاطع تلك القصيدة ، حيث تقول:
سكَن الليل
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ, تحتَ الصمتِ, على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو, تضطرب
حزنٌ يتدفقُ, يلتهب
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كل فؤادٍ غليان
في الكوخِ الساكنِ أحزان
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ
هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
لا شك أنّك أخي عرفت أنّ ثمة وزناً وموسيقا وتساءلت من أين جاءت بها هذه الشاعرة انها اعتمدت على تفعيلة بحر المتدارك فعلن ـ فعلن فعلن
والقافية عنده لم تترك وانما امسكت بها لتعيد لها روح النشوة الفنية متى ما ارادت ، وعدد غير قليل من شعراء التفعيلة يعتمدون التفعيلة الواحدة ويتصرفون في القوافي وتأتي قصائدهم رائعة وقد لاحظتُ أنّ الشاعرة المبدعة روضة الحاج كثيرا ما كتبت قصائدها من شعر التفعيلة على وزن بحر الكامل ، وتفاعيله هي: متفاعلن ـ متفاعلن ـ متفاعلن مكررة
هذا ومن رائع شعر التفعيلة قول الشاعر جعفر محمد عثمان في قصيدته التي يخفف فيها عن المبدعين ، بعد ان هجر الشعر عمالقة الشعراء وملأ الساحات الادبية سيل من الركاكات يقول:
أين من يسمع منكم؟!
أين من يفهم عنكم ؟!
أتُريَ قد ذَهبت ْ للشعرِ ريحْ ؟!
الى ان يقول لهم مسليا:
فاستريحوا
وأريحوا النفسَ من طول العَناءْ
ما لهذا القَفْر وجدان ٌ...ولا للريح آذان ٌ
ولا في الركبِ عِشقٌ للحُداءْ
حسبكم نزْف من القلبِ
فلم يبْق بشِريان دماءْ !
هذا احبتي القراء حديث موجز عن الشعر ، الشعر نغماً ، الشعر موسيقا ـ الشعر عاطفة ، الشعر صورة ، ، الشعر شعر , وعسى ان القاكم في حديث أدبيّ آخر مولّد من هذه المعاني ، جوهره الكلم والنّعم والصورة ، جوهره نفس الانسان مصورة بكل أبعادها وآمادها الماضية بل والأتية ذلك هو الشعر فاكتبوه ، او دعوه!